بدأت الرياضة بيضاء ناصعة تمارس من أجل قيم الحق والخير والجمال منذ أن كانت هناك ألعاب أولمبية. واستمرت كذلك قرونا عديدة إلى أزمنة قريبة، إذ انقلبت الأمور وتغيرت المفاهيم، فأضحت مجرد أنشطة تقوم لتحقيق أهداف أقل ما توصف به أنها رياضية، إذ أنها مورست إلا لكي تكون سياسية، مما أحالها إلى حرب حقيقية بأسلحة ودية، الأمر الذي جعل أحد رواد الرياضة في ألمانيا النازية الجنرال فون رايخنو يذهب إلى أن الحرب هي أعلى وأنبل صور الرياضة.

مع مطلع القرن العشرين، بدا التداخل بين كل ما هو رياضي وما هو سياسي جاثما على فضاء الممارسة الرياضية، إذ غالبا ما تعطلت دورات الأولمبياد، كما تم الدوس على القيم الرياضية خدمة لأغراض سياسية. فبعد بعث هذا المنتدى الرياضي من سباته على يد البارون الفرنسي بيير دي كوبرتان سنة 1896 بأثينا اليونانية، لم يكن أحد يعتقد أن هذا الصرح الرياضي سيتحول يوما ما إلى مسرح للتجاذب السياسي.

لكن الأهم في تاريخ الأولمبياد، بغض النظر عن الهزات التي عرفها، هو عودة الروح إليه بالمكان نفسه الذي جرت فيه أولى دوراته.

1896…كوبيرتان يوقظ الأولمبياد

وعلى الرغم من أن الكثيرين لا يتفاءلون بالرقم 13، فإنه كان فألا حسنا على الحركة والألعاب الأولمبية، فالألعاب الحديثة التي نظمتها أثينا، عاصمة اليونان، لم تشترك فيها سوى 13 دولة ‍! وتمادى هواة الإحصاء فجمعوا أرقام تلك السنة التاريخية (1896) وأرقام عدد المشتركين في الألعاب الأولى (285) فكان الحاصل هو 39، أي ثلاثة أمثال العدد المفترى عليه وهو 13… فتطير المتشائمون …! لكن المتفائلين أضافوا عدد الألعاب التي أدرجت في البرنامج الأولمبي وهي عشرة ألعاب في محاولة لكسر الشؤم، فكان الناتج 49 ومجموع أرقامه 13…أيضا !

ومع ذلك نجحت المحاولة الأولمبية الأولى رغم تواضع عدد الألعاب والمشتركين، رغم شكل ملعب أثينا الشاذ ورقم 13 الذي طارد معظم إحصائيات ألعاب أثينا ! ورغم الطرائف والمفارقات والنوادر التي صاحبت تلك الدورة التاريخية …!.

ولم يعترض مسار أولمبياد 1900 بباريس سوى تزامنه مع معرض باريس الذي سرق كل الأضواء، قبل أن تدشن فرنسا مسلسل استغلال الرياضة في التعبير عن موقف سياسي، إذ رفضت المشاركة في أولمبياد سانت لويس سنة 1904 نظرا لمشاركة ألمانيا التي منعت الجيوش الفرنسية من دخول أراضيها بعد عودتها مهزومة من روسيا، وعادت الأمور لتستقر في دورتي لندن 1908 واستوكهولم 1912، بل وعرفت زيادة في عدد المشاركين والألعاب المدرجة.

الحروب توقف الأولمبياد

إذا كانت الحروب لم تمنع ولايات الإغريق من إقامة الألعاب الأولمبية القديمة، حيث كانت الولايات اليونانية آنذاك توقف الحروب في ما بينها لتأمين سفر المشتركين في الألعاب الأولمبية القديمة التي كانت “المدن الدول” الإغريقية تقدسها، فإن حروب القرن العشرين الحديثة لم ترع حرمة الألعاب الأولمبية الحديثة، إذ عطلت الحرب العالمية الأولى (1914-1918) تنظيم الألعاب السادسة التي كان قد حدد لها موعدا عام 1916.

وليس من شك في أن كل مدينة تحظى بشرف تنظيم الألعاب الأولمبية، كانت تبذل كل ما في وسعها لتسمو دورتها فوق الدورات السابقة ولترسي تقاليد أولمبية جديدة أو لتحيي تقاليد قديمة، وذلك حتى ينسب إلى اللجنة المنظمة للألعاب الفضل في التجديد والابتكار. وفي هذا الباب تنافست كل اللجان المنظمة للألعاب.

 ولم تكن اللجنة المنظمة لألعاب برلين الأولمبية سنة 1936 في عهد الرايخ الثالث (ألمانيا الهتلرية) لتترك مثل تلك الفرصة الذهبية تمر دون كسب مزيد من الدعاية للنظام النازي وتأكيد تفوق الجنس الآري ومكانة العنصر الجرماني التي لا تدانيها مكانة أي شعب آخر، وهو ما اعتبر انعكاسا جليا لمنطق جوزيف غوبلز الناطق الرسمي باسم النازية بألمانيا وصديق الزعيم النازي أدولف هتلر، إذ كان فصيحا وبليغا ومقنعا إلى أبعد الحدود في طروحاته التي كان يبثها عبر إذاعة الرايخ. وقد كان ذلك واضحا حين قال غوبلز “الألعاب هي فرصة لدعاية لا مثيل لها في تاريخ العالم”، قبل أن يعكس رياضيو ألمانيا ذلك بجلاء من خلال إصرارهم بكل السبل على تحقيق الانتصار في كل الرياضات.

غير أن النازيين في ألمانيا لم يتمكنوا من استخدام كرة القدم لصالحهم، فقد كانت تحيرهم دائما نتائجها غير المتوقعة، فبعدما خسرت ألمانيا أمام سويسرا (1-2) في عيد ميلاد هتلر عام 1941، أمر وزير الاعلام غوبلز بعدم إجراء أية مباريات رياضية عندما تكون النتيجة مشكوكا في إيجابياتها. وعندما خسرت ألمانيا أمام السويد عام 1942 علق قائلا “غادر 100 ألف الملعب وهم يشعرون بالإحباط، وبما أن النصر في مباراة كهذه هو أقرب إلى الناس من أن تغزو ألمانيا مدينة في الشرق، فيجب حظر مثل هذه الأحداث لمصلحة المزاج الداخلي”. ولم يمض أكثر من شهرين حتى توقفت ألمانيا عن المشاركة في المباريات الدولية.

ولم يكن هذا الاستغلال للأولمبياد بالمفاجئ، فقد سبق لهتلر أن قال في كتاب “كفاحي” إن ملايين الأجسام الممارسة للرياضة، تهيم حبا بالوطن، ولديها روح دفاعية بإمكانها أن تتحول في ظرف سنتين إلى قوة عسكرية. وإذا كان كل الذين يأملون في إحراز الانتصارات في دورة برلين قد ضربوا لأنفسهم موعدا في الدورة الموالية، فإن الحرب العالمية الثانية (1939-1945) هدمت كل آمالهم وأحلامهم، بل وراحت ضحيتها نخبة من أبرز الأبطال المشهورين والصاعدين. الأمر الذي كان وراء توقف الأولمبياد للمرة الثانية ولمدة دورتين (1940-1944)، قبل أن تعلن انجلترا المنتشية بفوزها إلى جانب الحلفاء على النازية عن تنظيمها للدورة رقم 14 سنة 1948.

الاتحاد السوفياتي يطلق سباق الأولمبياد قبل سباق النجوم

لقد اكتشفت أوروبا الشرقية في المرحلة السوفياتية أن لا شيء يمكن أن يلهي الناس عن الحرية والخبز سوى الرياضة. ولذلك بذلت الأنظمة كل ما تستطيع من أجل أن تجمع فرقها أكبر عدد ممكن من الميداليات، فالمجتمع الذي يقدم أبطالا يحصدون الذهبيات هو مجتمع متعاف وسعيد، وقد تقدم الأبطال السابقون في ألمانيا الشرقية سابقا بدعاوى قانونية يتهمون فيها حكامهم السابقين بالتسبب في اعتلالهم وإصابتهم بالمرض، بسبب ما كانوا يعطونهم من منشطات اصطناعية طمعا في فوز أكيد يبرز تفوق إيديولوجياتهم.

وفي إحدى الدورات الأولمبية خلال السبعينات، كانت الرومانية كومانيتشي أبرز الوجوه في حصاد الميداليات، وبعد سنوات طلبت اللجوء في فلوريدا، وبعد ذلك بأيام بدأ حكم تشاوشسكو في التهاوي، ولا يعني ذلك طبعا أن الآنسة كومانيتشي كانت طليعة الثورة كما كانت من قبل طليعة النظام، لكن طلبها اللجوء لم يكن أقل أهمية أو وقعا من ذلك الطلب الذي تقدمت به سفتلانا وحيدة ستالين، والتي كانت أكبر جائزة تلقاها الغرب في الحرب الباردة، لكن ما إن انتهى الإعلام الغربي من امتصاص الرحيق الستاليني أو الدماء الستالينية حتى وجدت البطة الذهبية نفسها امرأة منسية، فحزمت حقيبتها وعادت إلى موسكو لتعيش في شقة من غرفتين، وتبين لها أن أحدا لم يعد يعرف من هي ولا عاد أحد يهمه الأمر إذا عرف.

ويقر جيمس ريوردان في تحليله التاريخي لتطور الرياضة في الاتحاد السوفياتي بأن الاحتكاك الدولي بعد الحرب العالمية الثانية هو الذي جعل الرياضة ميدانا للمنافسة الدولية، إذ وصلت أهمية الرياضة إلى كونها أصبحت سلاحا هاما في المنافسة بين نظامين عالميين متضادين إلى حد مثير، أي بين الرأسمالية والاشتراكية.

وترسخ الاقتناع في الاتحاد السوفياتي بأن الرياضة المحلية هي على درجة كافية من القوة في نهاية الحرب العالمية الثانية، بحيث يمكنها تحقيق الانتصارات على الدول البورجوازية، مما يصور حيوية النظام السوفياتي وعافيته. وفي قرار للحزب الشيوعي السوفياتي اتخذ بشأن الرياضة سنة 1949، أوجب على الرياضيين السوفيات رجالا ونساء، إثبات تفوقهم في الألعاب الرياضية الرئيسية في أفق سنة 1951، فوفق فلسلفة الشيوعيين في الرياضة، فإن الانتصارات الكثيرة التي حققها الرياضيون السوفيات تحمل مغزى سياسيا معينا في الظرف الذي تحققت فيه، وأي انتصار هو انتصار للمجتمع السوفياتي والنظام الرياضي الاشتراكي، كما أنه يقدم دليلا لا جدال فيه على تفوق الثقافة الاشتراكية على ثقافة الدول الرأسمالية المتحللة.

وفي السنوات التي تلت الحرب العالمية الثانية مباشرة، بدأت الجمعيات الرياضية السوفياتية تنضم إلى الاتحادات الرياضية الدولية ذات الصلة بها، وقد انضم الاتحاد السوفياتي ما بين 1949 و1958 إلى 30 اتحادا دوليا، وبحلول عام 1973 صار عضوا في 42 اتحادا رياضيا عالميا، علما بأنه في فترة متقدمة بعد سنوات الحرب، لم يكن يسمح للرياضيين السوفيات بدخول المسابقات الرياضية الدولية إذا لم يكن تحقيق الفوز فيها أمرا متوقعا.

وبعد 40 سنة من الغياب عن المسابقات الأولمبية، ظهر الاتحاد السوفياتي لأول مرة في الدورة الأولمبية 15 بهلسنكي سنة 1952، حيث تعدد نجاح الرياضيين السوفيات. واستمرت عجلة الأولمبياد في الدوران عبر محطات ملبورن واستكهولم سنة 1956 وروما سنة 1960 وطوكيو 1964، قبل أن يمسها عبق السياسة من جديد، إذ استغلت المكسيك دورة 1968 لتغطي على المأساة التي سبقت انطلاق الأولمبياد، إذ قتل المئات من الطلبة بساحة الثقافات الثلاث، كما تميزت هذه الدورة ببروز حركة الفهود السود الأمريكية، حيث كان كل عداء أمريكي يصعد إلى منصة التتويج يدير ظهره للعلم ويصم أذنيه عن النشيد الوطني الأمريكي، ويكتفي بوضع يده على قلبه تماشيا مع رمز الحركة التي أعلنت حالة من الإرهاب ضد حكومة البيض. وكان جزاء كل عداء أسود يقوم بشيء مما سبق، أن يتعرض للطرد ويحرم من الميدالية، وهو ما حصل للعداء الأمريكي جون كارلوس.

الأولمبياد..مجال للتعبير عن رفض التمييز والاحتلال

وفي دورة المكسيك الأولمبية التي أقيمت ما بين 22 و27 شتنبر 1968، قررت اللجنة الأولمبية الدولية سحب الاعتراف باللجنة الأولمبية لجنوب إفريقيا لتطبيقها التفرقة العنصرية التي تتعارض مع مبادئ اللجنة الأولمبية الدولية. وقد كانت هذه أول سابقة في التاريخ الأولمبي الحديث أن يتم إقصاء إحدى الدول الأعضاء ويتم حرمانها نهائيا من المشاركة في المسابقات التي تقام طيلة مدة الدورة. وكانت هذه الأزمة هي الشرارة التي جعلت عددا كبيرا من الدول تلغي تماما فكرة التفرقة العنصرية سواء للون أو الدين حتى لا تتعرض لهذه العقوبة القاسية والتي يتم فيها العزل الكامل لفرق ومنتخبات الدول المعترفة بنظام الميز العنصري.

ما سبق، كان كفيلا بأن يحرك الهواجس الداخلية للقارة الافريقية في اتجاه البحث عن حقوق رياضية، واستغلال الرياضة للتعبير عن همومها السياسية والاجتماعية، كما كان كفيلا بتشجيعها على المضي قدما في تحقيق مكاسب جديدة ولو من خلال القناة الرياضية، فقبل إقامة الدورة الأولمبية بميونيخ سنة 1972، توقف وصول البعثات الرياضية الافريقية إلى ألمانيا في انتظار قرار اللجنة الأولمبية الدولية بشأن مشاركة روديسيا في الدورة الأولمبية لكونها من الدول التي تطبق التفرقة العنصرية بين البيض والسود.

وكان القرار الإفريقي الأول والصادر عن منظمة الوحدة الإفريقية أن الدول الإفريقية لا تمانع في اشتراك روديسيا على أن تنضوي تحت بعثة بريطانيا باعتبارها مستعمرة بريطانية، كما حدث سنة 1964 بأولمبياد طوكيو.

لكن المجموعة الإفريقية ورغم الضغوطات الخارجية التي مورست عليها، اتخذت قرارا بانسحاب جميع الدول الإفريقية من الدورة الأولمبية أربعة أيام قبل انطلاقها إذا شارك لاعبو أو لاعبات من روديسيا تحت أي مسمى في الدورة الأولمبية.

وقررت اللجنة الأولمبية عقد اجتماعها قبل الدورة بثلاثة أيام لدراسة الموضوع، وطلب رئيسها إيفري بروندج من روديسيا ومنظمة الدول الافريقية حضور هذا الاجتماع ليعرض كل منهما وجهة نظره أمام اللجنة الأولمبية الدولية صاحبة القرار في استمرار روديسيا في الأولمبياد من عدمه. وبعد أن أعلن رئيس اللجنة الأولمبية عن تأجيل الاجتماع عدة مرات، اضطر في نهاية المطاف إلى عقده بعد أن صدرت التعليمات لعدد كبير من الدول الافريقية التي لم تصل بعد إلى ميونيخ بعدم السفر إلى ميونيخ إلا بعد صدور القرار النهائي من المنظمة الافريقية وفقا لقرار اللجنة الأولمبية الدولية المتعلق بدولة روديسيا العنصرية.

وبعد دخول أفراد بعثة روديسيا إلى ميونيخ بواسطة بطاقات أولمبية وفشلهم في إثبات أن وصولهم إليها تم بواسطة جوازات سفر إنجليزية والتي تعد شرطا لمشاركتهم في الأولمبياد تحت علم بريطانيا، قررت اللجنة الأولمبية الدولية إجراء تصويت حول الموضوع، أسفر عن فوز المنظمة الافريقية بـ 36 صوتا مقابل 31 مع امتناع ثلاثة أصوات عن التصويت، وعلى هذا الأساس انبنى القرار القاضي بطرد روديسيا من الدورة الأولمبية في ميونيخ وعدم السماح لها بالبقاء في القرية الأولمبية أو المشاركة في أية مسابقة بالأولمبياد.

وحاول رئيس اللجنة الأولمبية الدولية أن يعلن لرجال الإعلام بأن مضمون القرار هو سحب الدعوة الموجهة إلى روديسيا للاشتراك في الأولمبياد وليس الطرد، إلا أن السكرتير العام للمنظمة الافريقية جانجا أعلن أن الدول الافريقية انتصرت وتم طرد روديسيا من الأولمبياد، وبالتالي فإن الدول الافريقية ستشارك في ألعاب الدورة الأولمبية بميونيخ التي انطلقت بتاريخ 26 غشت 1972.

فلسطين وإسرائيل مرة أخرى…لكن بميونيخ

إذا كانت الدول العربية قد استثمرت نبوغها الأول في الرياضة خلال عدة محطات رياضية، إما بحثا عن تأكيد الهوية أو طمعا في الاستقلال، أو تعبيرا عن أزمة داخلية أحيانا أخرى، فإن أبرز محطة استغلت فيها الرياضة سياسيا على الإطلاق هي أزمة أولمبياد ميونيخ سنة 1972، حيث تفجرت إثر ذلك أزمة صعدت بقضية الاحتلال الاسرائيلي لفلسطين إلى واجهة الأحداث العالمية، حين هاجمت مجموعة من الفدائيين الفلسطينيين مقر البعثة الاسرائيلية داخل القرية الأولمبية.

وقد استغل الفدائيون الفلسطينيون فرصة متابعة بليون مشاهد عبر العالم لمنافسات أولمبياد ميونيخ عبر التلفزيون الألماني لتمرير خطابهم للعالم والكشف عن معاناة فلسطين من الاحتلال الاسرائيلي، خاصة أن عقد الخمسينات والستينات شهد تصاعد وتيرة الدول المتحررة وبداية نكوص الاستعمار الغربي بدول إفريقيا وآسيا على الخصوص.

وانطلقت فصول احتجاز الرهائن الاسرائيليين صباح يوم الثلاثاء 5 سبتمبر 1972، حين اقتحم فيدائيون فلسطينيون مقر البعثة الاسرائيلية، وقتلوا اثنين من أفراد البعثة الاسرائيلية أحدهم مدرب في المصارعة والثاني عضو البعثة الاسرائيلية خلال عملية الاقتحام.

وكانت مطالب الفدائيين الفلسطينيين محددة في الإفراج عن حوالي 200 فلسطيني من سجون إسرائيل وترحيلهم في طائرة خاصة من إسرائيل إلى مصر، إذ يتم تبادل المسجونين بالرهائن بعد ترحيلهم بالطائرة من ميونيخ إلى مصر. وأعطى الفدائيون مهلة حوالي أربع ساعات، أي إلى حدود الساعة الثانية عشرة ظهرا موعدا نهائيا لتنفيذ الطلبات وإلا  فجروا مقر البعثة الاسرائيلية بمن فيه من فدائيين وإسرائيليين. وقد تكلف بالوساطة بين الألمان والفدائيين رئيس البعثة المصرية عبد العزيز الشافي والمصري أحمد  توني الدمرداش عضو اللجنة الأولمبية الدولية، حين طلبوا من الفدائيين تمديد المهلة إلى أجل آخر لإجراء الاتصالات.

ورغم دعوة كل أعضاء البعثات العربية من قبل اللجنة المنظمة للاجتماع مع وزارة الداخلية الألمانية ساعة واحدة قبل الموعد المحدد لتفجير المقر (السابعة مساء) لتقييم الموقف، فإن أحدا لم يحضر بدون تبرير أو اعتذار باستثناء الوسيطين المصريين عبد العزيز الشافي، وأحمد توني الدمرداش.

وانتهت فصول هذه الأزمة نهاية مأساوية، فبعد تظاهر السلطات الألمانية بقبول مطالب الفدائيين، تم نقل الجميع بسيارات إلى ميدان قريب من القرية الأولمبية حيث كانت توجد به فعلا طائرتا هيلوكوبتر، واستقلها الجميع إلى المطار، وكانت تعلوهما طائرة ثالثة. وفجأة غيرت كل من الطائرتين اتجاههما من مطار ميونيخ إلى مطار شوين فيلد الذي كانت به إضاءة غير عادية، وبمجرد هبوط الطائرتين ونزول جميع الركاب، بدأ إطلاق النار في كافة الجهات قبل أن يتضح أن جميع الرهائن وعددهم 11 قد قتلوا، وكذلك قتل جميع الفدائيين وعددهم 6، عدا واحدا استطاع الهرب إلى خارج المطار.

مباشرة بعد الحادث، بدأت المحلات التجارية في ميونيخ تضع صور الرياضيين الإسرائيليين في واجهاتها، وكانت كل ألمانيا تعتصر ألما على هذا الحادث الذي جاء في وقت يشعرون فيه أنهم يقدمون للعالم أعظم دورة أولمبية في العصر الحديث، وازداد كره ألمانيا للعرب، خاصة أن البعثات العربية تعرضت لإجراءات أمنية دقيقة في المطار بشكل مستفز.

وقد كان من نتائج هذا الحادث أيضا عودة عدة بعثات عربية خوفا من موقف معاد من الشعب الألماني، وكانت أولى البعثات المغادرة لألمانيا سرا البعثة المصرية ثم السورية.

ومن بين الفعاليات الإعلامية التي حضرت لتغطية أولمبياد ميونيخ، الصحافي المغربي أحمد صبري الذي أكد أنه عاتب المرحوم محمد بن جلون عضو اللجنة الأولمبية الدولية على وقوفه دقيقة صمت في ملعب ميونيخ ترحما على أرواح الاسرائيليين، مضيفا أن رد محمد بنجلون كان موضوعيا إلى حد ما، فهو عضو باللجنة الأولمبية الدولية، كما أن تصرفه جاء بعد استشارته لسفير المغرب بألمانيا. وعلق أحمد صبري على ذلك بأن “المواقف السياسية للمغرب على المستوى الدولي كانت دائما رسمية ولم تكن أبدا شعبية”.

وشكل أولمبياد مونتريال بكندا سنة 1976 منعطفا آخر في علاقة إفريقيا بالعالم، ونموذجا آخر لاستغلال الرياضة من أجل الاحتجاج على وضع معين، علما بأن حادث مونتريال ارتكز على أساس غير موضوعي، لكن ذلك لم يمنع من تأكيد رغبة الأفارقة في طي صفحات العنصرية البائدة والحسم في مسألة حضور الدول الداعمة لنظام التمييز.

وتبدأ قصة أولمبياد 1976 بعد أن تقابل فريق للريكبي يمثل دولة نيوزيلاندا عضو اللجنة الأولمبية الدولية مع فريق الريكبي لجنوب إفريقيا التي تطبق التفرقة العنصرية والمحرومة من عضوية اللجنة الأولمبية الدولية والمجمدة عضويتها في الدورات الأولمبية.

وقبل الدورة الأولمبية المحددة لإجرائها الفترة الممتدة من 17 يوليوز إلى 1 غشت 1976، ظهر رئيس جمهورية تانزانيا جوليوس فيريري وأعلن تحديه لدولة نيوزيلاندا طالبا من اللجنة الأولمبية الدولية طرد هذه الدولة التي خالفت التعليمات الأولمبية وقابلت جنوب إفريقيا في لعبة الريكبي، وطبعا لم يدرك رئيس جمهورية تانزانيا أن لعبة الريكبي ليست لعبة أولمبية، وأنها ليست من الألعاب المبرمجة بأولمبياد مونتريال، كما أن اللجنة الأولمبية النيوزيلاندية لا تستطيع أن تعاقب اتحاد الريكبي النيوزيلاندي، لأنه ليس عضوا في اللجنة الأولمبية. ولكنه كمسؤول عن المنظمة الافريقية وكرجل هام من رجالاتها، أعلن هذا الإعلان وطالب المجلس الأعلى للرياضة في إفريقيا وجميع الدول الافريقية بعدم المشاركة في أولمبياد 1976، كما أعطى تعليمات مشددة للجنة الأولمبية التانزانية بعدم السفر إلى مونتريال احتجاجا على السماح لنيوزيلاندا بالمشاركة وهي الدولة التي قابلت جنوب إفريقيا. ووجدت جميع الدول الافريقية التي سافرت إلى مونتريال نفسها في موقف حرج جدا، فهي ضمن 92 دولة وصلت فعلا إلى كندا للمشاركة في الأولمبياد، كما أن اللجنة الأولمبية الدولية اجتمعت فعلا وقررت أن لعبة الريكبي غير أولمبية، وبذلك تكون اللجنة الأولمبية الوطنية في نيوزيلاندا غير مسؤولة عن مباراة اتحاد الريكبي مع دولة جنوب إفريقيا، وسمحت اللجنة الأولمبية الدولية ببقاء نيوزيلاندا في الأولمبياد معتمدة على قناعة بعض الدول الافريقية. وقبل الافتتاح بـ 48 ساعة فقط، دعيت الدول الافريقية إلى اجتماع في مونتريال، وكان الموضوع المطروح هو ضرورة اتخاذ إفريقيا موقفا موحدا ضد نيوزيلاندا وضد اللجنة المنظمة في مونتريال. فكان الاتفاق على ترك الحرية للدول الافريقية المشاركة وعددها 26 لأخذ الموقف الذي تراه مناسبا، لكن الدول الافريقية بدأت بعد ذلك في الانسحاب دولة إثر أخرى.

حرب ين المعسكرين الغربي والشرقي على أرض  الأولمبياد

كانت أكبر مقاطعة للأولمبياد هي تلك التي تمت سنتي 1980 و1984 بمناسبة احتضان كل من موسكو ولوس أنجلوس على التوالي للدورتين 22 و 23، إذ حضر التنافر الإيديولوجي وأرخى ظلاله على المعسكرين الشرقي والغربي معا، فقد افتتحت الألعاب الأولمبية في التاسع عشر يوليوز من عام 1980 في ملعب لينين بموسكو دون اشتراك الولايات المتحدة و28 دولة أخرى صديقة، وصور ذلك الحدث على أساس أنه مقاطعة احتجاجا على غزو الاتحاد السوفياتي لأفغانستان سنة 1979.

وتبارت وسائل الإعلام في تسليط الأضواء على هذا الحدث، ليس على مستوى تأثير ذلك على انسحاب قوات الاتحاد السوفياتي من أفغانستان فحسب، وإنما خوفا من تدمير هذه الألعاب، كما قال اللورد كيلان رئيس اللجنة الأولمبية الدولية، ومن خسارة العالم لملتقى الانسانية بعيدا عن الحقد والمنازعات والتفرقة والتمييز على مستوى اللون والعرق والمعتقد الديني والسياسي. ورغم خطورة الوضع واستعانة الرئيس الأمريكي جيمس كارتر بالكونغرس لتأييد تدابيره الأولمبية وترويض مقاومة اللجنة الأولمبية للولايات المتحدة وسواها من اللجان الأولمبية عبر حكوماتها، فإن الرئيس الأمريكي كان يفعل ذلك للضغط على الاتحاد السوفياتي لسحب قواته من أفغانستان، إذ إن فشله كان يعني إدانة تاريخية له كما أدين الامبراطور تيودوسيوس الذي أمر بإلغاء الدورات الأولمبية القديمة سنة 394 ميلادية.

صحيح أن الكثرة الساحقة من اللجان الأولمبية الوطنية قاومت حتى لا تقحم السياسة في قضية رياضية، لكن ذلك لم يحل دون ظهور بصمات السياسة على القرارات السلبية والإيجابية المتخذة بشأن الاشتراك في دورة موسكو، وقد جسد هذه الحقيقة الشيخ كبريال الجميل رئيس اللجنة الأولمبية والعضو اللبناني في اللجنة الأولمبية الدولية الذي قال ردا على سؤال حول موقف لبنان: “سنأخذ رأي الحكومة قبل أن تحدد اللجنة الأولمبية اللبنانية موقفها… لأن الاشتراك في أولمبياد موسكو لم يعد قضية أولمبية بحثة”. ومن الردود الصحفية الشديدة اللهجة تجاه الولايات المتحدة، نذكر رد ناصر الدين النشاشيبي والذي قال بالحرف: “لست شيوعيا، لست يساريا، ولكني سأذهب إلى موسكو في  الصيف القادم لكي أتفرج على دورة الألعاب الأولمبية التي ستقام فيها، ولن أخلط بين السياسية والرياضة. هكذا علمتنا أمريكا طيلة الثلاثين سنة الماضية، عندما كانت وفود الدول العربية ترفض أن تنازل إسرائيل في أية مباراة رياضية، فترد علينا أمريكا، لا تخلطوا بين الرياضة والسياسة ! وأنا تلميذ قديم للجامعات الأمريكية، ولا أريد أن أخالف تعاليمها رجلا بعد أن أطعتها تلميذا وشابا، فالسياسة شيء والرياضة شيء آخر”.

وبذلت الولايات المتحدة مجهودا استثنائيا لضمان نجاح دورتها الأولمبية، إذ خصصت طائرات عسكرية لنقل الأبطال خاصة الأفارقة منهم. وكان الرد السوفياتي على مقاطعة الغرب وقائده الأمريكي في الثامن والعشرين من يوليوز 1984، مقاطعته للدورة 23 التي احتضنتها لوس أنجلوس إلى جوار 17 دولة.

وصرح مارات غراموف وزير الرياضة ورئيس اللجنة الأولمبية السوفياتية لمجلة شتيرن الألمانية الغربية قائلا “هناك فارق كبير بين المقاطعة وعدم الاشتراك، إن المقاطعة قرار سياسي، أما مسألة عدم اشتراكنا في ألعاب لوس أنجلوس، فليس لها أي بعد سياسي، إنني أرى سحبا تتجمع في سماء لوس أنجلوس مهما قالوا إن السماء لا تمطر في كاليفورنيا”.

الصين تقايض من أجل أولمبياد 2008

لم تشهد الدورات المتتالية المتبقية على حلول القرن الواحد والعشرين أي حادث باستثناء مقاطعة كوبا وكوريا الشمالية لدورة سيول 1988 بكوريا الجنوبية، وحدوث انفجار داخل حديقة القرية الأولمبية بواسطة عبوة يدوية الصنع خلال دورة أطلانطا بالولايات المتحدة سنة 1996. وقد كانت الولايات المتحدة تهدف من خلال الأولمبياد إلى تحسين صورتها أمام المجتمع الدولي بعد قيادتها لحملة تحرير الكويت من قبضة العراق، خاصة وأنها أصرت على احتضان الدورة رغم الرغبة الملحة التي أبدتها أثينا في احتضان الدورة نفسها بهدف الاحتفال بمرور مائة عام على انطلاق الأولمبياد بالأرض التي بعث بها سنة 1896. ولم تمنح اليونان شرف الاحتضان إلا سنة 2004.

وإذا كانت دورة 2008 قد رست على الصين وعاصمتها بكين، فإن تقارير صحفية تحدثت قبل ذلك عن مقايضة صينية للأمريكيين على أساس إرجاع طائرة التجسس التي سقطت خطأ في الأجواء الصينية لهم مقابل دعم ترشيح الصين لاحتضان ثالث دورة أولمبية تنظم خلال الألفية الثالثة.

إذا كانت أثينا، مهد الفلسفة والديموقراطية في العصور القديمة، سلمت الشعلة الأولمبية إلى بكين، فإن ذلك لا يعدو أن يكون تسليما بحق دولة استبدادية في تنظيم أكبر ملتقى رياضي عالمي، في الوقت الذي أغمض فيه المؤثرون الفعليون في الرياضة العالمية أعينهم عن الانتهاكات الجماعية لحقوق الانسان في الصين من أجل هدف واحد وهو تأمين نجاح العيد الأولمبي. وعندها تم تناسي معسكرات العمل واحتلال التيبت وعمليات القمع الدموية في ساحة تيان آن مين وإعدامات المحكومين علنا وابتزازات الشرطة السياسية والتهديدات الموجهة إلى تايوان وعملية التطبيع الجارية مع هونغ كونغ. ومرة أخرى، فإن المهرجانات الأولمبية ستلعب دور الحجاب الواقي للقيام بالدعاية لنظام توتاليتاري. والصيغ الكلامية الرياضية بنزعتها الانسانية الرخيصة ستبرر عملية التسويق السياسية لبيروقراطية صينية، وكعادتها، فإن الرياضة “بغائيتها التي لا غاية لها” ستشرع لنظام طغيان.

د. منصف اليازغي

www.booksport.ma