في الصورة: رئيسا دولتي الصين والولايات المتحدة يقرران خوض مباراتين في كرة السلة وكرة الطاولة لإذابة الجليد بين المعسكرين الشيوعي والرأسمالي
توصف الرياضة بأنها حق من حقوق الإنسان، وتعرف بأنها مجموعة من الحركات المتناغمة التي يشكل مجموعها نشاطا جسمانيا مقننا ومفيدا، هذا على صعيد الممارسة الفردية، وعندما يتوسع الأمر أكثر، تصبح الرياضة نشاطا اجتماعيا لعله من أكبر وأهم ما أوجدته البشرية من انفعالات ونشاطات وأكثرها جذبا للاهتمام، فالطقوس المحيطة بالرياضة تجعلها شديدة الارتباط بالقيم الرمزية، فلدى بدء المباريات، ولدى منح الميداليات، يعزف النشيد الوطني وترفع الراية، إنه تمرين يجعل الأمر مرتبطا بشرف الأمة ومجسدا للسيادة.
يقول الكاتب البريطاني جورج اورويل ” الرياضة هي الحرب ولكن دون عيارات نارية “، إذ كشفت كثير من الأحداث وبالأخص في كرة القدم أنها مصدر لتأجيج الصراع ونشوب الحروب كذلك واستخدام العيارات النارية
لقد اختلطت كرة القدم على الخصوص بعبق السياسة الحابلة بمصطلحات تحفيزية، وبالتالي لا غرابة في أن نجد ان القاموس الموظف في الكتابة الصحفية وخصوصا قبل وبعد مباريات كرة القدم يحفل بمصطلحات عسكرية بحتة من خلال الحديث عن الهجوم والدفاع وصد الهجوم واحتلال أرض الخصم وتحطيم المقاومة، وتشبيه اللاعبين بالكتيبة العسكرية، إضافة إلى كلمات من قبيل الاستراتيجية والتكتيك، فضلا عن تشبيه التسديدات القوية للاعبين بالقذائف. وبناء على ذلك، فمباراة في كرة القدم هي حرب بأسلحة حضارية، بل إن لاعبا ألمانيا سابقا أصبح يعمل في ما بعد في مصالح الاستخبارات الألمانية قال معلقا بعد أن تابع فوز باييرن مونشغلادباخ الألماني على سانت إيتيان الفرنسي بهدفين لصفر في المنافسات الأوربية “هل لاحظتم كيف جاء تسجيل الهدفين، فالأول تم عبر تسرب من الأجنحة، في حين أن الثاني جاء من خلال عملية هجومية من الوسط، وهي الطريقة ذاتها التي هزم بها الألمان فرنسا في الحرب العالمية، فالتسرب عبر الأجنحة هو مرادف لخطة شييفن التي قادت الجيوش الألمانية سنة 1914 إلى مشارف باريس، والهجوم عبر الوسط، هو مرادف لخطة مانستاين التي كانت وراء سقوط فرنسا سريعا سنة 1940 أمام ألمانيا”.
ولا يقتصر الأمر على الصحافة، بل يمتد الأمر إلى الفرق نفسها، إذ أن خلفيات السياسة والحرب تحضر لدى المدربين من أجل تحفيز اللاعبين، فمدرب المنتخب الانجليزي آلف رامساي صرح بهدوء قبل مباراة ربع نهاية كأس العالم 1970 بالمكسيك “لماذا ستهزمنا ألمانيا بما أنها لم تنجح في ذلك طيلة 69 سنة وثلاثة حروب جمعت بلدينا؟”، وهو ما يتماشى مع الوصف الذي أوردته يومية “التايمز” الانجليزية قبل نصف نهاية كأس أوربا سنة 1996، إذ قالت “كرة القدم امتداد للحرب بوسائل أخرى”، وهذه المقولة مقتبسة من قاعدة كلوزويتز “الحرب امتداد للسياسة بوسائل أخرى”.
وسنة 1970، لم يجد عميد منتخب بلاد الغال فيل بينيت بدا من تغيير طريقه تحميسه للاعبين قبل مواجهة انجلترا، إذ قال “قبل حوالي 1500 سنة من الآن، لوث الأنجليز أرضنا، استغلوا خيراتنا، اغتصبوا نساءنا…أيها السادة، بعد زوال اليوم سنلعب ضد انجلترا”.
وخلال تصفيات كأس العالم لسنة 1970 ظلت مباراة الهندوراس والسالفادور راسخة في الأذهان خصوصا وأنها أشعلت فتيل حرب طاحنة، ففي مباراة الذهاب انتصر منتخب الهندوراس بهدف لصفر، وأرجع السالفادوريون هزيمتهم إلى سوء المعاملة التي تعرضوا لها حيث ظلت الجماهير الهندوراسية تثير ضجة كبرى ليلة المباراة بجوار الفندق الذي يقيم به المنتخب السالفادوري.
وفي مباراة الإياب التي انتهت بفوز منتخب السالفادور بثلاثة أهداف لصفر وتأهله إلى المونديال كان الجو مشحونا وعدائيا إذ تم نقل منتخب الهندوراس بعربة مصفحة إلى الملعب في حين مزق مشجعو السالفادور العلم الهندوراسي. وقد أدت هذه الأجواء إلى إغلاق الحدود بين البلدين بعدما هاجمت بعض الميليشيات في الهندوراس الفلاحين ذوي الأصول السالفادورية وقامت بطردهم، وفي خطوة غير مسبوقة تم قطع العلاقات الديبلوماسية بين البلدين قبل أن تكون الخاتمة مرعبة بعدما هاجم الجيش السالفادوري بتاريخ 14 يونيو 1969 الهندوراس وسط حرب استمرت أربعة أيام ولم توقفها إلا وساطات لمجموعة من الدول.
عندما تجري مباراة في كرة مثقلة بتاريخ تراجيدي، فإن التنافس يتجاوز حدود ما هو رياضي، فيوم 15 نونبر 1994، جرت مباراة ودية بين البرتغال والموزمبيق، التي كانت إحدى المستعمرات البرتغالية قبل أن تستقل سنة 1975. ورغم أن مباراة سابقة دارت بين البلدين سنة 1989 وانتهت بفوز البرتغال بستة أهداف للاشيء، فإن المباراة الثانية دارت في أجواء مشحونة بصور الماضي، فقد اضطر الحكم الفرنسي م.غاريبيان إلى طرد أربعة لاعبين من صفوف الموزمبيق بسبب خشونة مبالغ فيها بعد مرور 22 دقيقة من المباراة. وكانت النتيجة حينها خمسة أهداف لصفر، كما أن المباراة غدت مهددة بالتوقف في حالة طرد لاعب آخر كما تنص على ذلك قوانين الاتحاد الدولي. وعلق الحكم الفرنسي على المباراة بأنها لم تكن ودية بتاتا. والمثير في المباراة أن تسعة لاعبين من المنتخب الموزمبيقي يمارسون في البطولة البرتغالية، كما أن اللاعب البرتغالي أبيل خافيير ولد في الموزمبيق”.
ومن اللافت للنظر بأن قاموس كرة القدم نفسه يحفل بمصطلحات عسكرية بحتة من خلال الحديث عن الهجوم والدفاع وصد الهجوم واحتلال أرض الخصم وتحطيم المقاومة، وتشبيه اللاعبين بالكتيبة العسكرية إضافة إلى كلمات من قبيل الاستراتيجية والتكتيك، فضلا عن تشبيه التسديدات القوية للاعبين بالقذائف، فمباراة في كرة القدم هي حرب بأسلحة حضارية.
أما وزير خارجية الأمريكية المتحدة الأمريكية هنري كيسنجر المولع بالإستراتيجيا وكرة القدم فقد قال: “إن فريق ألمانيا الغربية لكرة القدم يقوم بالتخطيط لمبارياته مثلما تخطط قيادة الأركان الألمانية لهجوماتها، وذلك عبر الاهتمام الدقيق بكل التفاصيل”.
وكما أن الرياضة استخدمت كثيرا لإرسال إشارات وتحديد بعض المواقف السياسية فإنها استخدمت أيضا كأداة لتحقيق المصالحة وإشاعة السلم، فلاعب المنتخب الليبيري جورج ويا الذي حقق نجومية كبيرة في الملاعب الأوربية سواء وهو يلعب لفريق باري سان جرمان أو مع أسي ميلانو الإيطالي أعطى الانطباع أن كرة القدم يمكن أن تقدم الكثير، لقد صرح هذا اللاعب بعد فوزه بالكرة الذهبية التي تمنح لأحسن لاعب إفريقي سنة 1995 قائلا: “إنني أقدم الكرة الذهبية إلى جميع الفصائل المتحاربة في بلادي وسوف أجمعها في العاصمة مانروفيا بعد أن قدمت البرهان بأنه يمكن للمرء أن يقاتل من أجل بلاده دون أن يخوض حربا”.
وفعلا فقد كان جورج وياه الاسم الذي وحد الليبيريين وجعل العالم يمحو من ذهنه صورة الحرب المدمرة لهذا البلد الإفريقي ويرى فيه بلد كرة القدم وبلد المواهب.
ولم يكتف جورج وياه بذلك، بل إنه تسلم إدارة المنتخب الليبيري وكان يصرف عليه من ماله الخاص كما حدث خلال كأس الأمم الإفريقية التي جرت بمالي سنة 2002.
من جهة أخرى، وبعد نشوب الحرب في يوغوسلافيا لم يتردد الاتحاد الأوربي في طرد المنتخب اليوغوسلافي من نهائيات كأس أوربا للأمم التي أقيمت بالسويد سنة 1992، إذ تم تعويضه بالمنتخب الدنماركي الذي فاز بلقب الدورة رغم أنه آخر الملتحقين، وقد أراد المنتظم الدولي من خلال ذلك ممارسة ضغط على سلوبودان ميلوزيفيتش الرئيس اليوغوسلافي في محاولة لتجنيب المنطقة مخاطر حرب طاحنة، بل إن السويد كانت قريبة من أن تطالب بإبعاد يوغسلافيا من كأس العالم بفرنسا في حالة عدم إجراء الرئيس ميلوزيفيتش مفاوضات جادة مع ألبان كوسوفو التي قتل بها رجال الشرطة 20 ألبانيا.
وفي مارس من سنة 1994 وبعدما احتج سكان البوسنة والهرسك على الدور الذي تلعبه القوات الدولية في بلادهم، قام القائد البريطاني لهذه القوات الجينرال ميشيل روز بتنظيم مباراة لكرة القدم تحت حراسة مشددة بين نادي سراييفو وفريق من جنود القوات الدولية، وكان الهدف هو إظهار المدينة وكأنها تعيش في حالة سلام.
وفي سنة 1998 اقترحت السويد ضرورة استبعاد منتخب يوغوسلافيا من كأس العالم لكرة القدم، إذا لم يقم الرئيس سلوبودان ميلوزوفيتش بمفاوضات مع ألبانيي كوسوفو الذين تعرضوا للتقتيل.
وفي شهر يونيو من عام 2001 عرفت كولومبيا فترة هدنة استمرت طيلة فترة احتضانها لكأس أمريكا الجنوبية على الرغم من أنها تعيش حربا أهلية تمزق أوصالها منذ 40 سنة.
وفي يناير من عام 2002 وفي عز الحملة العسكرية الأمريكية على أفغانستان تم تنظيم مباراة لكرة القدم بين لاعبين أفغانيين وفريق من القوات العسكرية لحفظ السلام.
وخلال كأس الخليج لكرة القدم سنة 2002 التي جرت بالسعودية وبعدما أحس منتخب البحرين بظلم التحكيم هدد بالانسحاب من الدورة، غير أن تدخل رئيس الهيئة العامة للشباب والرياضة في البحرين كان حاسما بضرورة إكمال المشاركة. وكان في ذلك رسالة سياسية واضحة مفادها أن ما يوحد بلدان الخليج ويؤكد على تلاحمها هو أكبر من عوامل التفرقة.
ولعل أبرز مثال للاستغلال الإيجابي للرياضة ما حدث بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين. لقد كانت العلاقات بين البلدين دخلت نفقا مسدودا خصوصا بعدما فرضت الولايات المتحدة الأمريكية العزلة على الصين بعد تبنيها خطا ثوريا منذ سنة 1949 بزعامة ماوتسي تانغ قائم على إيديولوجية شيوعية.
وبعد سنوات طويلة أدركت الولايات المتحدة الأمريكية أنه حان الوقت لإحداث التقارب والانفتاح على الصين ورأت الخارجية الأمريكية في تقرير أصدرته سنة 1971 أن هناك تقصيرا من الجانب الأمريكي في استغلال الرياضة كأداة من الأدوات الديبلوماسية.
وفي السنة ذاتها، أرسلت واشنطن إلى بكين فريقا لكرة الطاولة لإجراء مباريات ودية أمام الصين، ويومها بدأ العالم يتحدث عن ديبلوماسية تنس الطاولة، وفي سنة 1972 أرسلت الولايات المتحدة الأمريكية فريقا لكرة السلة، ولم يكن ذلك إلا رغبة من الولايات المتحدة لربط علاقات جيدة مع الصين وتحويلها إلى جدار صد متقدم اتجاه الاتحاد السوفياتي.
ولم يكن اختيار هذين الرياضتين بريئا، فالمعروف أن الصين مشهورة بممارسة كرة الطاولة ولها تقاليد عريقة في هاته الرياضة وبالتالي فهزيمة الأمريكيين لم تكن لتحدث أي هزة ما دامت لا تتوفر على تقاليد لممارسة هذا النوع الرياضي، وهو الأمر ذاته الذي ينطبق على الصين حين الحديث عن كرة السلة، وقد مهدت هذه الزيارات الرياضية لزيارة تاريخية قام بها هنري كيسنجر للصين، وقد علق الزعيم الصيني ماو قائلا: “لقد سمعنا طرقات على أبواب سور الصين العظيم، وحين فتحنا وجدنا الدكتور كيسنجر عند الباب فسمحنا له بالدخول”.
أما تعليق الخبير الأمريكي غولد برج فقد جاء كالتالي: “لقد ساعدت المبادلات الرياضية على فتح حوار جديد يقوم على التفاهم بما يوحي بأن بوسع الألعاب الرياضية أن تقوم بدور مهم في تطوير العلاقات بين الدول، بل وفي إقامة جسور تواصل بين أمريكا ودول أخرى”.
إن الأمم المتحدة وجدت نفسها مضطرة إلى الاستعانة بالرياضة من أجل جمع الإعانات المادية للقارة الإفريقية، إذ تم منح صفة سفير فوق العادة للعداء السوداني عمر خليفة المتخصص في المسافات المتوسطة وأحد نجوم ألعاب القوى الذي ميزوا السنوات الممتدة بين 1975 و1990. وكانت مهمة عمر خليفة، وكان سنه وقتها 28 سنة، حمل الشعلة الأولمبية والطواف بها في 19 بلدا أوربيا من أجل جمع الإعانات المادية. وشهدت جولته لقاؤه بأبرز قادة أوربا كالرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران ورئيسة الوزراء البريطانية مارغريت تاتشر والمستشار الألماني هلموت كول وملك اسبانيا خوان كارلوس، بل إن بريطانيا خصصت له طائرة خاصة لمساعدته على القيام بمهمته. ونجحت هذه الجولة في جمع 9 ملايير دولار، وهو المبلغ الذي فشلت في جمع نصفه الاجتماعات السياسية، ما دفع الأمم المتحدة إلى تخصيص استقبال للعداء السوداني وإعطائه شرف إلقاء كلمة في أكبر محفل دولي، قبل أن يأخذ الأمين العام للأمم المتحدة بيريز ديكويلار الكلمة لشكر البطل السوداني خاتما كلمته بالحرف “لن أشكرك عمر، لكن سأشكر الشعب الذي أنجبك”. وكان ذلك بمثابة الشرارة الأولى لانطلاق الماراثونات المختلفة في حوالي 200 مدينة في العالم، إذ بادر بعض العدائين إلى الجري عبر العالم انطلاقا من 75 عاصمة عالمية لتحقيق الغذاء لأبناء إفريقيا.
د. منصف اليازغي
www.booksport.ma